صدمة السياحة الأمريكية: لماذا يهرب الجميع باستثناء المكسيك؟
بينما تتحدث الأرقام الرسمية عن تعافٍ اقتصادي، تقف إحصائيات السياحة الدولية في الولايات المتحدة كدليل صارخ على خلل أعمق. الصورة ليست وردية؛ فالأعداد تتراجع بشكل مقلق، لكن هناك استثناء واحد يكسر القاعدة: المكسيك. هذا التباين ليس مجرد تقلب موسمي، بل هو مؤشر حاسم على تحولات جيوسياسية واقتصادية عميقة تؤثر على جاذبية البلاد كوجهة عالمية. ما الذي يجعل المسافرين من أوروبا وآسيا يترددون، بينما يتدفق الزوار من المكسيك؟
التحليل المضاد: ما لا تخبرك به التقارير الرسمية
الرواية السائدة تميل إلى إلقاء اللوم على التضخم أو صعوبات الطيران. هذا تبسيط مخل. الحقيقة تكمن في مزيج قاتل من **التكاليف الباهظة** و**تدهور الصورة الدولية**. تكلفة السفر داخل الولايات المتحدة، من الإقامة إلى التنقل الداخلي، أصبحت ترهق المسافر الأوروبي أو الياباني بشكل غير مسبوق. لكن الأهم هو عامل **الأمن والتصور العام**. في سياق عالمي متوتر، تبدأ الولايات المتحدة بفقدان بريقها كـ"أرض الفرص الآمنة" في أذهان الكثيرين، وهو ما يؤثر مباشرة على **تدفق الزوار**.
أما المكسيك، فهي القصة المعاكسة تماماً. الزيادة في عدد السياح المكسيكيين ليست فقط نتيجة قرب المسافة. إنها انعكاس لتقارب اقتصادي متزايد وتسهيلات حدودية (إذ أن الحركة بين البلدين هي الأكثر كثافة عالمياً). كما أن المكسيك أصبحت وجهة بديلة وأقل تكلفة للمكسيكيين أنفسهم، الذين قد يجدون أن قضاء عطلة داخل بلادهم أو في وجهة قريبة أسهل من مواجهة بيروقراطية التأشيرات الأمريكية وتكاليفها المرتفعة. هذا يعني أننا نشهد إعادة تشكيل لمناطق الجذب السياحي الإقليمية، حيث تبرز المكسيك كبديل فعال من حيث التكلفة والوصول.
لماذا يهم هذا التراجع؟ (ما وراء الأرقام)
تراجع السياحة الدولية ليس مجرد خسارة في عائدات الفنادق؛ إنه يمثل تآكلاً للقوة الناعمة الأمريكية. السياحة هي سفير اقتصادي وثقافي. عندما يقل عدد الزوار من الأسواق التقليدية (مثل أوروبا واليابان)، تقل فرص التبادل التجاري، وتتأثر الصناعات المرتبطة بشكل مباشر، من بيع التجزئة إلى قطاع الترفيه. نحن نتحدث عن صناعة تشكل جزءاً كبيراً من الناتج المحلي الإجمالي.
المشكلة الأعمق تكمن في **القدرة التنافسية**. هل تستطيع الولايات المتحدة تبرير أسعارها المرتفعة مقارنة بوجهات منافسة مثل كندا أو حتى دول أوروبية تقدم تجربة شاملة بتكلفة أقل؟ الإجابة الحالية تشير إلى أن العرض السياحي الأمريكي أصبح غير متوازن، مع تركيز مفرط على المدن الكبرى وارتفاع الأسعار الذي يطرد المسافر العادي. يمكن الاطلاع على تحليلات حول تأثير التضخم على قطاع السفر العالمي من مصادر موثوقة مثل منظمة السياحة العالمية (UNWTO).
التنبؤ: إلى أين نتجه من هنا؟
في المستقبل القريب (الـ 18 شهراً القادمة)، من المتوقع أن يستمر هذا التراجع في الأسواق الرئيسية ما لم يحدث تغيير جذري في سياسات التأشيرات أو استراتيجيات التسعير. **التنبؤ الجريء** هو أن الولايات المتحدة ستبدأ في التركيز بشكل أكبر على سياحة "القيمة العالية" (Ultra-High-Net-Worth Individuals) التي لا تتأثر بالتكاليف، مع إهمال المسافر الأوروبي المتوسط الذي يبحث عن القيمة مقابل المال. هذا سيؤدي إلى تضخم أكبر في الأسعار داخل المدن السياحية الكبرى، مما يعمق الفجوة بين الوجهات الأمريكية وبدائلها الأكثر مرونة. سيستمر الاعتماد على السوق المكسيكي كـ"صمام أمان" إقليمي، لكنه لن يعوض خسارة مليارات الدولارات القادمة من القارات الأخرى. (للمقارنة، يمكن مراجعة تقارير مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي حول التجارة الدولية).
للحفاظ على مكانتها، يجب على الولايات المتحدة إعادة تقييم شاملة لتجربة الزائر، بدءاً من بوابات الدخول وحتى سهولة الحركة الداخلية. حتى ذلك الحين، ستظل أرقام السياحة الدولية تروي قصة تراجع القوة الجاذبة.